فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ}
قيلَ: الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ: العذابُ الأليمُ، وقيلَ: هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلغَ قعَرهُ، وقيلَ وقيلَ، وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ. والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ. ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ.
وقيل: قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدِهما ويكتالُ بالآخرِ، وقيلَ: كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتُهم المنابذةَ والملامسةَ والمخاضرةَ فنزلتْ فحرجٍ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهمُ وقال: «خمسٍ بخمسٍ ما نقصَ قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الفاحشةُ إلا فشَا فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ إلا مُنِعوا النباتَ وأُخِذاوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ» وقوله تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفِهم الذي استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ على بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيالٌ مضرٌّ بِهم لكنْ لاَ على اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإنَّ المرادَ بالاستيفاءِ ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريكِ المكيالِ والاحتيالِ في ملئهِ وأما ما قيلَ: من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شيءٌ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ لهم عليهم مع كونِه بعيداً جدًّا مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلاً يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعلى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلتُ عليكَ فكأنَّه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قال اكتلتُ منكَ فكقوله استوفيتُ منكَ فتأمل.
وقد جُوِّز أنْ تكونَ {على} متعلقةً بـ: {يستوفون} ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفون على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفون لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ القصرَ بتقديمِ الجارِّ والمجرورِ وإنما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ، ولا ريبَ في أنَّ الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يتصورُ أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديث واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ.
والضمير البارزُ في قوله تعالى: {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم} للنَّاسِ أيْ إذ كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه {يخسرون} أي ينقصونَ يقال خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قوله:
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً

أي جنيتُ لكَ، وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ، وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلامِ لبيانِ سوءِ معاملتِهم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى.
وقوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعُه موضعَ ضيمرِهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضمير فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلونَ منزلةَ المشارِ إليها إشارةً حسيةً، وما فيهِ منَ مَعْنى البُعدِ للإشعارِ ببُعدُ درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أنَّهم مبعوثونَ {لِيوم عَظِيمٍ} لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظنا ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يوم عظيمٍ مبنيٌّ على الفتحِ لإضافتِه إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعاً كما هو رأيُ الكوفيينَ ويؤيد الأخيرينِ القراءة بالرفعِ وبالجَرِّ. وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ اليوم بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالى خاضعينَ ووصفِه تعالى بربوبيةِ العاليمنَ من البيانِ البليغِ لعظمِ الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيفِ وأمثالِه ما لا يخفى.
{كَلاَّ} ردعٌ عما كانُوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ وقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سجين} الخ. تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ و{سجين} علمٌ لكتاب جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ، منقول من وصفٍ كحاتمٍ، وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ موحشٍ وهو مسكنُ إبليسَ وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتاب الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي ذلكَ الكتاب المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين} تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ.
وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا خيرَ فيه وقيلَ: هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتاب السجين أو محلُّ {كتاب مرقوم}. وقوله تعالى: {وَيْلٌ يومئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} متصلٌ بقوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} وما بينهما اعتراضٌ وقوله تعالى: {الذين يُكَذّبُونَ بِيوم الدين} إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ.
{وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع مشاهدتِه للبدءِ {أَثِيمٍ} أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} الناطقةُ بذلكَ {قال} من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحقِّ الذي لا محيدَ عنْهُ {أساطير الأولين} أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي الأثيمِ هو الوليدُ بنُ المغيرةِ، وقيلَ: النَّضرُ بنُ الحارثِ، وقيلَ عامٌّ لكلِّ منَ اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ، وقرئ إذَا يُتلى بتذكيرِ الفعلِ، وقرئ {أَإِذَا تُتلى} على الاستفهامِ الإنكاريِّ.
{كَلاَّ} ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القول الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ. وقوله تعالى: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقال في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانُوا بُكسبونَها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتةٌ سوادءُ حتى يسودَّ قلبُه».
ولذلكَ قالوا ما قالوا والرينُ الصدأُ يقال رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً، ويُقال رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ، وقرئ بإدغامِ اللامِ في الراءِ {كَلاَّ} ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ {إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ، وقيلَ: هو تمثيلٌ لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ.
وعن ابنِ عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ: محجوبونَ عن رحمتِه، وعن ابنِ كيسانَ: عن كرامتِه.
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} أي داخِلُو النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيم أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ.
{ثُمَّ يُقال} لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} فذوقُوا عذابَهُ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ}
{ويل} مبتدأ، وسوّغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز.
قال مكي والمختار: في ويل، وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً أو معرّفاً كان الاختيار فيه النصب نحو قوله: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ} [طه: 61] و{للمطففين} خبره، والمطفف: المنقص، وحقيقته الأخذ في الكيل، أو الوزن شيئًا طفيفاً أي: نزراً حقيراً.
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفف، وهو القليل، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن.
قال الزجاج: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
قال أبو عبيدة، والمبرد: المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن، والمراد بالويل هنا شدّة العذاب، أو نفس العذاب، أو الشرّ الشديد، أو هو واد في جهنم.
قال الكلبي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسيئون كيلهم، ووزنهم لغيرهم، ويستوفون لأنفسهم، فنزلت هذه الآية.
وقال السديّ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان بها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية.
قال الفراء: هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلاً إلى يومهم هذا.
ثم بيّن سبحانه المطففين من هم؟ فقال: {الذين إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} أي: يستوفون الاكتيال، والأخذ بالكيل.
قال الفرّاء: يريد اكتالوا من الناس، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان، يقال: اكتلت منك أي: استوفيت منك، وتقول: اكتلت عليك أي: أخذت ما عليك.
قال الزجاج: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، ولم يذكر اتزنوا؛ لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع، فأحدهما يدل على الآخر.
قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا، وهو معنى قوله: {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم يخسرون} أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، فحذفت اللام فتعدّى الفعل إلى المفعول، فهو من باب الحذف والإيصال، ومثله: نصحتك، ونصحت لك، كذا قال الأخفش، والكسائي، والفرّاء.
قال الفرّاء: وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل.
قال: وهو من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم من قيس.
قال الزجاج: لا يجوز الوقف على كالوا حتى يوصل بالضمير، ومن الناس من يجعله توكيداً أي: توكيداً للضمير المستكنّ في الفعل، فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا، قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين، ويقف على {كالوا} أو {وزنوا}، ثم يقول: {هم يخسرون}.
قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك.
قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما الخط، ولذلك كتبوها بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف.
والأخرى أنه يقال: كلتك، ووزنتك بمعنى: كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربيّ؛ كما يقال صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وشكرتك وشكرت لك، ونحو ذلك.
وقيل: هو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف المكيل والموزون أي: وإذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا موزونهم، ومعنى {يخسرون}: ينقصون كقوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 9] والعرب تقول: خسرت الميزان، وأخسرته.
ثم خوّفهم سبحانه فقال: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} والجملة مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف، وتفظيعه، وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المطففين، والمعنى: أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون، فمسؤولون عما يفعلون.
قيل: والظنّ هنا بمعنى اليقين أي: لا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن، وقيل: الظنّ على بابه، والمعنى: إن كانوا لا يستيقنون البعث، فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه، ويبحثوا عنه، ويتركوا ما يخشون من عاقبته.
واليوم العظيم: هو يوم القيامة، ووصفه بالعظم، لكونه زماناً لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب، ودخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} انتصاب الظرف بـ: {مبعوثون} المذكور قبله، أو بفعل مقدّر يدل عليه {مبعوثون}.
أي: يبعثون يوم يقوم الناس، أو على البدل من محل {ليوم}، أو بإضمار أعني، أو هو في محلّ رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو في محلّ جرّ على البدل من لفظ {ليوم}، وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل.
قال الزجاج: {يوم} منصوب بقوله: {مبعوثون}، المعنى: ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة؟
ومعنى {يوم يقوم الناس}: يوم يقومون من قبورهم لأمر ربّ العالمين، أو لجزائه، أو لحسابه، أو لحكمه وقضائه.
وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه، ووصفه سبحانه بكونه ربّ العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف، ومزيد إثمه، وفظاعة عقابه.
وقيل المراد بقوله: {يوم يَقُومُ الناس} قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم، وقيل: المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد، وقيل: المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء، والأوّل أولى.
قوله: {كَلاَّ} هي: للردع، والزجر للمطففين الغافلين عن البعث، وما بعده.
ثم استأنف فقال: {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سجين} وعند أبي حاتم أن {كلا} بمعنى: حقًّا متصلة بما بعدها على معنى: حقًّا إن كتاب الفجار لفي سجين، و{سجين} هو ما فسره به سبحانه من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب مرقوم} فأخبر بهذا أنه {كتاب مرقوم} أي: مسطور.
قيل: هو كتاب جامع لأعمال الشرّ الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة، ولفظ {سجين} علم له.
وقال قتادة، وسعيد بن جبير، ومقاتل، وكعب: إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب، فيجعل كتاب الفجار تحتها، وبه قال مجاهد، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف، والتقدير: محل كتاب مرقوم.
وقال أبو عبيدة، والأخفش، والمبرد، والزجاج {لَفِى سجين}: لفي حبس وضيق شديد، والمعنى: كأنهم في حبس، جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانها.
قال الواحدي: ذكر قوم أن قوله: {كتاب مرقوم} تفسير لـ: {سجين}، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين، والوجه أن يجعل بياناً لـ: {كتاب} المذكور في قوله: {إِنَّ كتاب الفجار} على تقدير هو كتاب مرقوم أي: مكتوب قد بينت حروفه انتهى.
والأولى ما ذكرناه، ويكون المعنى: إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي: ما يكتب من أعمالهم، أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدوّن للقبائح المختصّ بالشر، وهو سجين.
ثم ذكر ما يدل على تهويله، وتعظيمه، فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين} ثم بيّنه بقوله: {كتاب مرقوم}.
قال الزجاج: معنى قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين} ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قال قتادة: ومعنى {مرقوم}: رقم لهم بشرّ كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر.
وكذا قال مقاتل.
وقد اختلفوا في نون {سجين}، فقيل: هي أصلية، واشتقاقه من السجن، وهو الحبس، وهو بناء مبالغة كخمير، وسكير، وفسيق من الخمر والسكر والفسق.
وكذا قال أبو عبيدة، والمبرد، والزجاج.
قال الواحدي: وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً.
ويجاب عنه: بأنه رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة، وتدل على أنه من لغة العرب، ومنه قول ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية ** ضرباً تواصت به الأبطال سجينا

وقيل: النون بدل من اللام، والأصل سجيل، مشتقاً من السجل، وهو الكتاب.
قال ابن عطية: من قال: إن سجيناً موضع، فـ: {كتاب} مرفوع على أنه خبر إن، والظرف وهو قوله: {لَفِى سجين} ملغى، ومن جعله عبارة عن الكتاب، فـ: {كتاب} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسراً لـ: {سجين} ما هو؟ كذا قال.
قال الضحاك: {مرقوم} مختوم بلغة حمير، وأصل الرقم الكتابة.
قال الشاعر:
سأرقم بالماء القراح إليكم ** على بعدكم إن كان للماء راقم

{وَيْلٌ يومئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} هذا متصل بقوله: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} وما بينهما اعتراض، والمعنى: ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث، وبما جاءت به الرسل.
ثم بيّن سبحانه هؤلاء المكذبين فقال: {الذين يُكَذّبُونَ بِيوم الدين} والموصول صفة للمكذبين، أو بدل منه {وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي: فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم {قال أساطير الأولين} أي: أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها.
قرأ الجمهور {إذا تتلى} بفوقيتين.
وقرأ أبو حيوة، وأبو السماك، والأشهب العقيلي، والسلمي بالتحتية، وقوله: {كَلاَّ} للردع، والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل، وتكذيب له، وقوله: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأوّلين.
قال أبو عبيدة: {ران على قلوبهم}: غلب عليها ريناً، وريوناً، وكل ما غلبك، وعلاك فقد ران بك، وران عليك.
قال الفرّاء: هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها.
قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.
قال مجاهد: القلب مثل الكف، ورفع كفه فإذا أذنب انقبض، وضم إصبعه، فإذا أذنب ذنباً آخر انقبض، وضم أخرى حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه.
قال: وكانوا يرون أن ذلك هو الرين.
ثم قرأ هذه الآية.
قال أبو زيد: يقال قد رين بالرجل ريناً: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به.
وقال أبو معاذ النحوي: الرين أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشدّ من الرين، والإقفال أشدّ من الطبع.
قال الزجاج: الرين هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق، ومثله الغين.
ثم كرّر سبحانه الردع، والزجر فقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وقيل: كلا بمعنى حقًّا أي: حقًّا إنهم، يعني: الكفار عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبداً.
قال مقاتل: يعني: أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم.
قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة.
وقال جلّ ثناؤه: {وُجُوهٌ يومئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فأعلم جلّ ثناؤه أن المؤمنين ينظرون، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه.
وقيل: هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك.
وقال قتادة، وابن أبي مليكة: هو أن لا ينظر إليهم برحمته، ولا يزكيهم.
وقال مجاهد: محجوبون عن كرامته، وكذا قال ابن كيسان {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} أي: داخلو النار، وملازموها غير خارجين منها، وثم لتراخي الرتبة؛ لأن صلي الجحيم أشدّ من الإهانة، وحرمان الكرامة.
{ثُمَّ يُقال هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} أي: تقول لهم خزنة جهنم تبكيتاً وتوبيخاً: هذا الذي كنتم به تكذبون في الدنيا، فانظروه وذوقوه.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين»
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «{يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} قال: «فكيف إذا جمعكم الله، كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم» وأخرج أبو يعلى، وابن حبان، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «{يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إذا حشر الناس قاموا أربعين عاماً.
وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه قال: يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة؟ قال: «ألف سنة لا يؤذن لهم» وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سجين} قال: إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، فيهبط بها إلى الأرض، فتأبى أن تقبلها، فيدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو خدّ إبليس، فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم، ويوضع تحت خد إبليس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {سجين}: أسفل الأرضين.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ قال: «الفلق جب في جهنم مغطى، وأما سجين فمفتوح» قال ابن كثير: هو حديث غريب منكر لا يصحّ.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{سجين} الأرض السابعة السفلى» وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن ماجه، والطبراني، والبيهقي في البعث عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: لما حضرت كعباً الوفاة أتته أمّ بشر بنت البراء فقالت: إن لقيت ابني، فأقرئه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أمّ بشر نحن أشغل من ذلك، فقالت: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حين شاءت، وإن نسمة الكافر في سجين؟» قال: بلى، قالت: فهو ذلك.
وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}». اهـ.